يبدو أن مشكلة القروض السكنية المدعومة قد تسلك طريق الحلّ خلال بضعة أسابيع. وعورة الطريق لم تنجم عن معوقات سوقية، بل مصدرها يكمن في العقل السياسي ــ الاقتصادي ــ الاجتماعي الذي أدار هذا الملف لسنوات. كانت الطبقة الثرية أولوية هذا العقل، ما أتاح لسياسيين ومتموّلين ومضاربين عقاريين، الاستفادة من الدعم الذي كان يقدّمه مصرف لبنان، فيما كانت حصّة ذوي الدخل المحدود، من القروض السكنية المدعومة، محدودة. هذا الأمر عبّر عنه، أمس الأربعاء، وزير الشؤون الاجتماعية بيار بو عاصي بعد انتهاء الاجتماع الذي عقد برئاسة رئيس الحكومة سعد الحريري، بحضور وزير المال علي حسن خليل، ورئيس مجلس إدارة المؤسسة العامة للإسكان روني لحود. قال بو عاصي: “تبيّن لي أن هناك من يأخذ قرضاً بقيمة 800 ألف دولار مدعومة لكي يستطيع أن يستملك. لا أعتقد أن على المواطن اللبناني أن يدفع من جيبه ضرائب لدعم قرض لمن يستطيع شراء شقة بـ800 ألف دولار… ما أقصده أنْ ليس على المواطن اللبناني والخزينة ودافعي الضرائب أن يدعموا قروضاً للميسورين”.
الحلّ المقترح كان لحود قد حمله في جولة على المعنيين قبل إقرار الموازنة، منهم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ووزير المال علي حسن خليل، وعدد من النواب، سعى خلالها إلى إقناعهم بجدوى دعم القروض السكنية للفئات المتوسطة والفقيرة. اقترح لحود تخصيص المؤسسة العامة للإسكان بمبلغ يُستخدَم لدعم القروض السكنية التي تمنحها المؤسسة (بين 180 إلى 200 ألف دولار)، إلا أن اقتراحه جوبه بالرفض، على اعتبار أن الموازنة لا تتحمّل أي زيادة في النفقات.
المصارف نفسها… اللعبة نفسها
المثير للسخرية، أن المبلغ المطلوب كان بسيطاً جداً، إذ إن كلفة الدعم تقدَّر في السنة الأولى بنحو 50 مليار ليرة، ثم تنخفض إلى أقل من 20 مليار ليرة لاحقاً. أما الكلفة الإجمالية على مدى 15 سنة، فلم تكن تزيد على 300 مليار ليرة لتمكين نحو 5000 أسرة (أو مشروع أسرة) سنوياً من الحصول على مسكن.
العقل نفسه الذي أدار لعبة القروض السكنية المدعومة التي استفاد منها سياسيون وأثرياء ومضاربون على مدار السنوات الماضية، هو نفسه رفض اقتراح لحود، رغم حدوده الضيّقة مالياً. قوى السلطة لم تكتفِ برفض الاقتراح، بل على العكس عملت على توفير المزيد من الدعم الذي يصبّ في جيوب الأغنياء من خلال إدراج سلّة من الإعفاءات والتسويات الضريبية في قانون موازنة 2018. هذه العملية وُصفت بأنها واحدة من أكبر عمليات الهدر والفساد المقونن التي أقرها مجلس النواب، بناءً على اقتراحات مجلس الوزراء. وقد تضمنت واحداً من أبرز مطالب جمعية المصارف، هو خفض رسم التسجيل العقاري. ففي كانون الأول الماضي، طلبت الجمعية من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة “التواصل مع المسؤولين لخفض رسوم التسجيل للعقارات التي تستوفيها لقاء الديون»، بحسب ما ورد في محضر اللقاء بينهما. قوى السلطة لبّت سريعاً مطلب المصارف، فأقرّ خفض معدل رسم التسجيل العقاري إلى 3% عن الشطر الأول من ثمن العقار الذي لا يزيد على 375 مليون ليرة، وأن يطبق معدّل رسم 5% على الجزء الذي يزيد على 375 مليون ليرة.
وهذه المصارف هي نفسها التي عطّلت تطبيق تعميم مصرف لبنان بخصوص القروض السكنية العالقة، وهو ما أشار إليه بوضوح الوزير بو عاصي، مشيراً إلى “حصول إشكالات طاولت مواطنين التزموا شراء عقارات ومنازل على أساس الحصول على قروض مدعومة. بعض المصارف اعتبرت أن الاموال المتوافرة لديها لم تعد كافية لدعم هذه القروض، ما جعل المواطن الذي دفع عربوناً لمنزل أو لعقار، يقع في أزمة كبيرة. وقد صدر تعميم عن حاكم مصرف لبنان، لكنه لم يطبق حتى الآن من الجميع. وهذا الأمر غير مقبول”.
إذاً، المصارف ترفض تطبيق التعميم، فيما يقف مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف متفرجين إزاء الأزمة الطارئة على السوق السكني. هذه الأزمة بدأت في النصف الثاني من كانون الثاني من السنة الجارية، بعيد اتخاذ مصرف لبنان قراراً بتعديل آليات دعم القروض السكنية. إذ ذاك، قرّر سلامة وقف تمويل القروض السكنية من ميزانيته والاكتفاء بتخصيص مبلغ 750 مليار ليرة لدعم فوائد القروض، على أن يوزّع هذا المبلغ على المصارف وفق كوتا تحتسب على أساس حصّة المصارف من سوق التسليفات.
من يفوز بقرض مدعوم؟
لم تكن هذه الخطوة لتتحوّل إلى مشكلة ما دامت تحافظ على استمرارية الدعم، لكن المفاجأة أن المبلغ الذي خصّصه مصرف لبنان للدعم استنفد خلال بضعة أيام من دون أن يلبي كل الطلبات المقدمة إلى المصارف. فما حصل، أن طالبي القروض سددوا دفعات مقدّمة إلى أصحاب الشقق (من أبرز الشروط أن يدفع طالب القرض 20% من ثمن الشقة وأن يموّل الباقي من القرض) في انتظار انتهاء إجراءات الموافقة من المصارف، لكن مع صدور قرار مصرف لبنان القاضي بتحديد مبلغ الدعم، تبيّن أن قسماً منهم سيستفيد من الدعم، فيما هناك المئات لن يكون بمقدورهم الفوز بقرض سكني مدعوم.
أثار الأمر بلبلة واسعة، ما دفع رئيس الجمهورية ميشال عون إلى الطلب من سلامة، إيجاد حلّ للطلبات العالقة. يومها، أصدر مصرف لبنان التعميم الوسيط 487 الذي يسمح للمصارف “استثنائياً وبعد الحصول على موافقة مصرف لبنان” الاستفادة من الدعم “مقابل القروض السكنية الممنوحة بالليرة”. وحدّد التعميم شروط موافقة مصرف لبنان بأن تكون هذه القروض قد “حصلت على موافقة المصرف المعني أو على موافقات الجهات المعنية بالبروتوكولات (مؤسسة إسكان أو جهات إسكان العسكريين وسواهم) والتي تجاوزت الحدّ الأقصى للمبلغ المخصص لكل مصرف عن عام 2018… على أن يسري الدعم اعتباراً من بداية عام 2019 وأن تحتسب هذه القروض ضمن المبلغ الإجمالي الذي سيخصّص للقروض السكنية التي تمنح بالليرة من المصارف كافة خلال 2019”.
سرعان ما تبيّن أن هذا الحلّ يستنفد أكثر من 400 مليار ليرة من الدعم المخصص لعام 2019 من دون أن يشمل كل طالبي القروض، أي إنه يعالج جزءاً من المشكلة القائمة.
لذا، وجب إيجاد شمّاعة تبرّر للمصارف تعطيل الحلّ وتمنح مصرف لبنان سبباً لعدم معالجة كل الطلبات العالقة. ألقي اللوم على سلسلة الرتب والرواتب. وبحسب مصادر مطلعة، أوضح سلامة لمن راجعه بهذا الخصوص، أن إقرار سلسلة الرتب والرواتب عزّز دخل فئة كبيرة من موظفي القطاع العام الذين كانوا يرغبون في تملك شقة، ما رفع الطلب على القروض السكنية إلى حدود أكبر من المتوقع، في ظل وجود ضغوط نقدية تفرض على مصرف لبنان تقديم دعم بحدود ضيّقة.
(الأخبار)